الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن (نسخة منقحة)
.فائدة في العموم والخصوص: ذَكَرَهُ ابْنُ فَارِسٍ وَخَرَّجَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ من ربك} قَالَ: فَهَذَا خَاصٌّ بِهِ يُرِيدُ هَذَا الْأَمْرَ المحدد بلغه {وإن لم تفعل} ولم تبلغ هذا {فما بلغت رسالته} يُرِيدُ جَمِيعَ مَا أُرْسِلْتَ بِهِ. قُلْتُ: وَهُوَ وَجْهٌ حَسَنٌ وَفِي الْآيَةِ وُجُوهٌ أُخَرُ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّكَ إِنْ تَرَكَتْ مِنْهَا شَيْئًا كُنْتَ كَمَنْ لَا يُبَلِّغُ شَيْئًا مِنْهَا فَيَكُونُ تَرْكُ الْبَعْضِ مُحْبِطًا لِلْبَاقِي قَالَ الرَّاغِبُ: وَكَذَلِكَ أن حكم الأنبياء عليهم السلام فِي تَكْلِيفَاتِهِمْ أَشَدُّ وَلَيْسَ حُكْمُهُمْ كَحُكْمِ سَائِرِ النَّاسِ الَّذِينَ يُتَجَاوَزُ عَنْهُمْ إِذَا خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا وَرُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَالثَّانِي: قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ: إِنَّهُ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ: مَعْنَاهُ: أَنَّ شِعْرِي قَدْ بَلَغَ فِي الْمَتَانَةِ وَالْفَصَاحَةِ إِلَى حَدِّ شَيْءٍ قِيلَ فِي نَظْمٍ إِنَّهُ شِعْرِي فقد انْتَهَى مَدْحُهُ إِلَى الْغَايَةِ فَيُفِيدُ تَكْرِيرَ الْمُبَالَغَةِ التَّامَّةِ فِي الْمَدْحِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَكَذَا جواب الشرط ها هنا يَعْنِي بِهِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُوصَفَ تَرْكُ بَعْضِ الْمُبَلَّغَ تَهْدِيدًا أَعْظَمَ مِنْ أَنَّهُ تَرَكَ التَّبْلِيغَ فَكَانَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى غَايَةِ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ وَضُعِّفَ الْوَجْهُ الَّذِي قَبْلَهُ بِأَنَّ مَنْ أَتَى بِالْبَعْضِ وَتَرَكَ الْبَعْضَ لَوْ قِيلَ: إِنَّهُ تَرَكَ الْكُلَّ كَانَ كَذِبًا وَلَوْ قِيلَ إِنَّ الْخَلَلَ فِي تَرْكِ الْبَعْضِ كَالْخَلَلِ فِي تَرْكِ الْكُلِّ فَإِنَّهُ أَيْضًا مُحَالٌ. وَفِي هَذَا التَّضْعِيفِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْإِمَامُ نَظَرٌ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَتَى أُتِيَ بِهِ غَيْرَ مُعْتَدٍّ بِهِ فوجده كَالْعَدَمِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: أَيْ: وَلَمْ تُعْطِ مَا يُعَدُّ نَائِلًا وَإِلَّا يَتَكَاذَبُ الْبَيْتُ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ لِتَعْظِيمِ حُرْمَةِ كِتْمَانِ الْبَعْضِ جَعَلَهُ كَكِتْمَانِ الْكُلِّ كَمَا فِي قوله تعالى: {فكأنما قتل الناس جميعا}. الرَّابِعُ: أَنَّهُ وَضَعَ السَّبَبَ مَوْضِعَ الْمُسَبِّبِ وَمَعْنَاهُ: إِنْ لَمْ تَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَكَ مَا يُوجِبُهُ كِتْمَانُ الْوَحْيِ كُلِّهِ مِنَ الْعَذَابِ. ذَكَرَ هَذَا وَالَّذِي قَبْلَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ. .تَنْبِيهٌ: وَهَذِهِ الدَّلَالَةُ مَمْنُوعَةٌ لِأَنَّ التَّبْلِيغَ مُطْلَقٌ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِصُورَةِ التَّوَاتُرِ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى فَلَا تَثْبُتُ زِيَادَةُ ذَلِكَ إِلَّا بِدَلِيلٍ وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يُكَلِّفْ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِشَاعَةَ شَيْءٍ إِلَى جَمْعٍ يَتَحَصَّلُ بِهِمُ الْقَطْعُ غَيْرَ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ الْمُعْجِزُ الْأَكْبَرُ وَطَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ الْقَطْعُ فَأَمَّا بَاقِي الْأَحْكَامِ فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرْسِلُ بِهَا إِلَى الْآحَادِ وَالْقَبَائِلِ وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى قَطْعًا. .الْخَامِسُ: خِطَابُ الْجِنْسِ: قال الراغب: والناس قَدْ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْفُضَلَاءُ دُونَ مَنْ يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ النَّاسِ تَجَوُّزًا وَذَلِكَ إِذَا اعْتُبِرَ معنى الإنسانية وهو وجود العقل وَالذِّكْرِ وَسَائِرِ الْقُوَى الْمُخْتَصَّةِ بِهِ فَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ عُدِمَ فِعْلُهُ الْمُخْتَصُّ بِهِ لَا يَكَادُ يَسْتَحِقُّ اسْمَهُ كَالْيَدِ فَإِنَّهَا إِذَا عَدِمَتْ فِعْلَهَا الْخَاصَّ بِهَا فَإِطْلَاقُ الْيَدِ عَلَيْهَا كَإِطْلَاقِهِ عَلَى يَدِ السَّرِيرِ وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {آمِنُوا كَمَا آمن الناس} أَيْ: كَمَا يَفْعَلُ مَنْ يُوجَدُ فِيهِ مَعْنَى الْإِنْسَانِيَّةِ وَلَمْ يَقْصِدْ بِالْإِنْسَانِ عَيْنًا وَاحِدًا بَلْ قَصَدَ الْمَعْنَى وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ} أَيْ: مَنْ وُجِدَ فِيهِمْ مَعْنَى الْإِنْسَانِيَّةِ أَيَّ إِنْسَانٍ كَانَ. قَالَ: وَرُبَّمَا قُصِدَ بِهِ النَّوْعُ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْلَا دَفْعُ الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض}. .السادس: خطاب النوع: .السابع: خطاب العين: {يا نوح اهبط بسلام}. {يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا}. {يا موسى}. {يا عيسى}. وَلَمْ يَقَعْ فِي الْقُرْآنِ النِّدَاءُ بِـ: (يَا محمد) بل بـ: {يا أيها النبي} و: {يا أيها الرسول} تَعْظِيمًا لَهُ وَتَبْجِيلًا وَتَخْصِيصًا بِذَلِكَ عَنْ سِوَاهُ. .الثامن: خطاب المدح: وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أيها المؤمنون} قِيلَ: يَرِدُ الْخِطَابُ بِذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَتَظَاهَرُونَ بِالْإِيمَانِ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تؤمن قلوبهم}. وَقَدْ جَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمُجَادِلَةِ في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول} أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ آمَنُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَأَنْ يَكُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ الْخِطَابُ بـ: {يا أيها النبي} {يا أيها الرسول} وَلِهَذَا تَجِدُ الْخِطَابَ بِالنَّبِيِّ فِي مَحَلٍّ لَا يَلِيقُ بِهِ الرَّسُولُ وَكَذَا عَكْسَهُ كَقَوْلِهِ فِي مقام الأمر بالتشريع العام: {يا أيها الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} وفي مقام الخاص: {يا أيها النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} ومثله: {إن إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ من دون المؤمنين}. وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ: {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ ورسوله} فِي مَقَامِ الْإِقْتِدَاءِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ثُمَّ قَالَ: {لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} فَكَأَنَّهُ جَمَعَ لَهُ الْمَقَامَيْنِ مَعْنَى النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ تَعْدِيدًا لِلنِّعَمِ فِي الْحَالَيْنِ. وقريب منه في المضاف إلى الخاص: {يا نساء النبي لستن كأحد من النساء} وَلَمْ يَقُلْ: (يَا نِسَاءَ الرَّسُولِ) لَمَّا قَصَدَ اخْتِصَاصَهُنَّ عَنْ بَقِيَّةِ الْأُمَّةِ. وَقَدْ يُعَبَّرُ بِالنَّبِيِّ فِي مَقَامِ التَّشْرِيعِ الْعَامِّ لَكِنَّ مَعَ قَرِينَةِ إرادة التعميم كقوله: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء} وَلَمْ يَقِلْ طَلَّقْتَ. .التَّاسِعُ: خِطَابُ الذَّمِّ: {قل يا أيها الْكَافِرُونَ}. وَلِتَضَمُّنِهِ الْإِهَانَةَ لَمْ يَقَعْ فِي الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ. وَكَثُرَ الْخِطَابُ بِـ: {يا أيها الذين آمنوا} عَلَى الْمُوَاجَهَةِ وَفِي جَانِبِ الْكُفَّارِ عَلَى الْغَيْبَةِ إِعْرَاضًا عَنْهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وإن يعودوا فقد مضت سنت الأولين} ثُمَّ قَالَ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} فَوَاجَهَ بِالْخِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَعْرَضَ بِالْخِطَابِ عَنِ الْكَافِرِينَ وَلِهَذَا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَتَبَ عَلَى قَوْمٍ قَالَ: «مَا بَالُ رِجَالٍ يَفْعَلُونَ كَذَا» فَكَنَّى عَنْهُ تَكَرُّمًا وَعَبَّرَ عَنْهُمْ بِلَفْظِ الْغَيْبَةِ إِعْرَاضًا. .الْعَاشِرُ: خِطَابُ الْكَرَامَةِ: وقوله: {ادخلوها بسلام آمنين}. .الْحَادِي عَشَرَ: خِطَابُ الْإِهَانَةِ: وقوله: {قال اخسأوا فيها ولا تكلمون}. وقوله: {وأجلب عليهم بخيلك ورجلك}. قَالُوا: لَيْسَ هَذَا إِبَاحَةً لِإِبْلِيسَ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّ مَا يَكُونُ مِنْكَ لَا يَضُرُّ عِبَادَهُ كَقَوْلِهِ: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ}. .الثَّانِي عَشَرَ: خِطَابُ التَّهَكُّمِ: وقال: {فبشرهم بعذاب أليم} جَعَلَ الْعَذَابَ مُبَشَّرًا بِهِ. وَقَوْلُهُ: {هَذَا نُزُلُهُمْ يوم الدين}. وَقَوْلُهُ: {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فنزل من حميم وتصلية جحيم} وَالنُّزُلُ لُغَةً: هُوَ الَّذِي يُقَدَّمُ لِلنَّازِلِ تَكْرِمَةً لَهُ قَبْلَ حُضُورِ الضِّيَافَةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ من أمر الله} عَلَى تَفْسِيرِ الْمُعَقِّبَاتِ بِالْحَرَسِ حَوْلَ السُّلْطَانِ يَحْفَظُونَهُ-عَلَى زَعْمِهِ- مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَهُوَ تَهَكُّمٌ فَإِنَّهُ لَا يَحْفَظُهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِذَا جَاءَهُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا} وهو تعالى يعلم حقيقتهم ويعلم ما يسرون وما يعلنون لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ} وَذَلِكَ لِأَنَّ الظِّلَّ مِنْ شَأْنِهِ الِاسْتِرْوَاحُ وَاللَّطَافَةُ فَنُفِيَ هُنَا وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَأْهِلُونَ الظِّلَّ الْكَرِيمَ.
|